إسرائيل والأقليات السورية- استغلال الانقسام لتعزيز النفوذ الإقليمي

المؤلف: محمد سرميني09.04.2025
إسرائيل والأقليات السورية- استغلال الانقسام لتعزيز النفوذ الإقليمي

لطالما طمحت إسرائيل إلى توطيد مكانتها كطرف فاعل ومؤثر في منطقة المشرق العربي، ولم يقتصر مسعاها على استخدام الأدوات الأمنية والعسكرية فحسب، بل امتد ليشمل استغلال المتغيرات الهيكلية العميقة التي تعصف بالدول المجاورة، وبالأخص تلك المتعلقة بالانقسامات الطائفية والتصدعات الاجتماعية المتفاقمة.

ويعتبر المشهد السوري، منذ تفجر الأزمة فيه وبالأخص بعد انهيار النظام الحاكم في أواخر عام 2024، بمثابة مسرح رئيسي لهذا النمط من الاستغلال الإسرائيلي، الذي عمد إلى إعادة تنشيط مفهوم "تحالف الأقليات" بصورة أكثر وضوحًا وجلاءً من أي وقت مضى، مع استخدام الأدوات العصرية المتنوعة، بنوعيها الناعم والخشن، في سبيل تحقيق أهدافها.

منذ عهد الانتداب الفرنسي، مثّل تحالف الأقليات في كل من سوريا ولبنان وسيلة فعالة لتأمين السيطرة والحفاظ على التوازن في مواجهة الأغلبية السنية. وقد حرص الفرنسيون أيما حرص على رعاية هذا التحالف وتقويته، مستفيدين إلى أقصى حد من الخلافات الدينية والمذهبية المتجذرة لتعزيز نفوذهم السياسي والعسكري في المنطقة.

إسرائيل، على الرغم من دخولها المتأخر إلى هذا المعترك، إلا أنها سرعان ما استأنفت العمل بهذا النهج، ولكن برؤية جديدة مستوحاة من حاجتها الماسة إلى تأمين حدودها الشمالية وضمان بقاء الدول المحيطة بها في حالة من الضعف والتشرذم الدائم.

ومع الانهيار المباغت للنظام السوري، وجدت إسرائيل سانحة ذهبية لإعادة تشكيل التوازنات الطائفية على نحو يعزز من مكانتها ويمنحها أوراق ضغط جديدة ومؤثرة في الملف السوري، الذي لطالما كان ساحة لتنافس قوى إقليمية ودولية متعددة.

في هذا السياق، برزت الطائفة الدرزية كإحدى أبرز النقاط التي تركز عليها إسرائيل اهتمامها. فقبل سقوط النظام، كان الدروز منقسمين إلى ثلاثة معسكرات رئيسية: معسكر يدور في فلك المحور الإيراني، ويضم غالبية دروز السويداء في سوريا وجبل لبنان، ومعسكر قومي عروبي سعى جاهدًا للحفاظ على استقلاليته بعيدًا عن المحاور الإقليمية المتصارعة، ومعسكر دروز الداخل الفلسطيني الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية.

كان هذا التوزع يعكس مدى تعقيد الهوية والانتماء الدرزي في المنطقة، إلا أن سقوط النظام السوري وتراجع نفوذ حزب الله أفضيا إلى خلق فراغ قيادي سارعت إسرائيل إلى ملئه بشتى الطرق.

لهذا الغرض، دفعت إسرائيل بقيادات درزية من داخل حدودها إلى الواجهة، مروجة لفكرة مفادها أن مشيخة الدروز في إسرائيل قادرة على لعب دور جامع للطائفة بأسرها، سواء داخل سوريا أو لبنان.

وتوازى ذلك مع إطلاق رسائل سياسية وإعلامية متواترة، تؤكد استعداد تل أبيب للتدخل عسكريًا لحماية الدروز في سوريا حال تعرضهم لأي تهديد. وتم تصوير مشايخ الطائفة في إسرائيل على أنهم يتمتعون بنفوذ كاف لتحريك القرار العسكري الإسرائيلي، بما في ذلك استخدام الطيران الحربي، الأمر الذي عزز من مكانتهم داخل الإقليم وأوجد توازنًا جديدًا في قيادة الواقع الدرزي.

الجدير بالذكر أن هذه السياسة الإسرائيلية لم تقتصر على الجوانب الرمزية أو الدعائية، بل اقترنت بتحركات استخباراتية ودبلوماسية حثيثة لإقامة شبكات تواصل وتأثير داخل المجتمعات الدرزية في السويداء ولبنان.

وعلى الرغم من أن هذه التحركات ظلت محدودة إلى حد ما بسبب الحساسيات الدينية والاجتماعية، إلا أنها أفرزت واقعًا جديدًا يتمثل في بروز إسرائيل كلاعب أساسي لا يمكن تجاهله في المعادلة الطائفية السورية.

ومع أن الدروز يمثلون محور التركيز الأساسي في هذه الإستراتيجية، فإن إسرائيل تراقب عن كثب أيضًا الوضع الكردي، وتقدم الدعم لبعض الفاعلين السياسيين والعسكريين الأكراد، لا سيما في الشمال الشرقي لسوريا.

ويتلاقى هذا الملف مع الملف الدرزي في تحقيق الأهداف نفسها: تقويض السلطة المركزية في دمشق، ومنع تشكيل جيش وطني موحد، والحفاظ على التفوق العسكري النوعي لإسرائيل في المنطقة.

أما الطائفة العلوية، فإن إسرائيل لم تتدخل بشكل مباشر في شؤونها، لكنها استغلت إعلاميًا الأحداث التي شهدها الساحل السوري في مارس/آذار 2025، حين اندلعت اشتباكات بين فلول النظام والسلطة الجديدة، وقدمت هذه الأحداث كدليل قاطع على عجز الحكومة الجديدة عن حماية الأقليات، وهو ما استغلته تل أبيب للضغط على دمشق سياسيًا.

في خلفية هذه التحركات، تكمن الإستراتيجية الإسرائيلية الأعمق، والتي تتمثل في إبقاء سوريا دولة ضعيفة ومنقسمة ومثقلة بالصراعات الطائفية والاجتماعية. لذلك، فإن أي مؤشرات على تعافي الدولة السورية، أو تقارب مكوناتها، تقابل من قبل إسرائيل بقلق بالغ ومحاولات مستمرة للتخريب أو التشويش، سواء عبر الدعم غير المباشر لمجموعات طائفية متطرفة، أو من خلال تصعيد الحملات الإعلامية والتشويش الدبلوماسي.

ولعل أكثر ما يثير الانتباه في هذا الصدد هو استخدام إسرائيل ورقة الأقليات كورقة تفاوضية لفرض نفسها في أي ترتيبات مستقبلية تخص سوريا. فهي تعارض، بصوت عال أحيانًا أو بأسلوب ضمني أحيانًا أخرى، النهج الذي تبنته إدارة ترامب، والذي يقوم على تسليم الملف السوري لتركيا والسعودية.

وترى تل أبيب أن إقصاءها عن الطاولة سيجعلها في موقف دفاعي بدلًا من المبادرة، ولذلك فهي تعمل جاهدة على تعزيز أوراقها المحلية داخل سوريا، وخاصة من خلال الاعتماد على ورقة الدروز، من أجل التأكيد على أنها شريك لا يمكن تجاوزه في أي حل مستقبلي، وتسعى إلى تثبيت هذه المعطيات على وجه السرعة قبل الزيارة المرتقبة للرئيس ترامب في الأيام القليلة المقبلة إلى السعودية.

ومن هذا المنطلق، تتحول الأقليات من مجرد مكون اجتماعي إلى أداة ضغط إقليمي في يد إسرائيل، تستخدمها لتثبيت مكانتها وترسيخ شرعية تدخلها في ملفات حساسة لا تقع ضمن حدودها.

ومع أن هذا النهج ليس جديدًا بالكامل، إلا أن الظروف الراهنة – بما تتضمنه من انهيار محور إيران في المنطقة، وصعود محاور جديدة في الخليج وتركيا، ووجود فراغ سياسي كبير في سوريا – قد وفرت لإسرائيل فرصة تاريخية لإعادة تعريف أدوارها، ليس فقط كقوة عسكرية ضاربة، بل كلاعب سياسي مؤثر داخل النسيج المجتمعي السوري.

وإذا كانت تل أبيب قد نجحت خلال السنوات الماضية في ترسيخ حضورها القوي في ملفات شائكة مثل الملف الفلسطيني واللبناني، فإن محاولتها التوسع في الملف السوري عبر بوابة الأقليات تمثل اختبارًا حقيقيًا لقدرتها على إدارة ملفات معقدة تقوم على توازنات داخلية دقيقة.

بيدَ أن هذا التوسع يحمل في طياته مخاطر جمة أيضًا، لا سيما إذا ما تطورت ردود الفعل المحلية داخل سوريا ولبنان، أو إذا أعادت القوى الدولية الكبرى النظر في الكلفة السياسية المترتبة على تورط إسرائيل العميق في الملف السوري، خاصة في ظل إعادة تشكيل النظام الإقليمي برمته.

ومع تشكّل ملامح دولة سورية جديدة في مرحلة ما بعد الصراع، تبدو الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى إلى إعادة بناء عقد اجتماعي جديد يضمن الاستقرار الداخلي المنشود ويواجه التحديات الإقليمية المتزايدة، وعلى رأسها التمدد الإسرائيلي المقلق في الجنوب السوري.

  • أولًا، من أجل تفكيك الأزمات المتراكمة مع الأطراف الداخلية، ينبغي للدولة السورية الجديدة أن تتبنى نهجًا تصالحيًا شاملًا يبدأ بإطلاق حوار وطني معمق يضم ممثلين عن كافة المكونات السياسية والعرقية والدينية. ولا بد من الاعتراف الصريح بالتعددية السورية والعمل الدؤوب على صياغة دستور عصري يضمن الحقوق السياسية والمدنية لجميع المواطنين، ويؤسس لحكم لا مركزي يتيح للمناطق المختلفة قدرًا معقولًا من الإدارة الذاتية ضمن إطار وحدة الدولة.

كما أن إعادة هيكلة المؤسسات الأمنية لتكون خاضعة لرقابة مدنية صارمة ومساءلة قانونية شفافة تشكل مدخلًا أساسيًا لاستعادة ثقة المواطنين المفقودة. وإضافة إلى ذلك، فإن إطلاق مسار عدالة انتقالية فعال يعالج الانتهاكات السابقة ويعيد الحقوق لأصحابها سيكون عاملًا حاسمًا في تحقيق المصالحة المجتمعية الشاملة.

  • ثانيًا، لمواجهة خطر التمدد الإسرائيلي المتزايد، تحتاج سوريا بشدة إلى تعزيز تموضعها الدبلوماسي إقليميًا ودوليًا، وتفكيك الذرائع الواهية التي تُستخدم لتبرير التدخلات الأجنبية السافرة في شؤونها الداخلية. ويتوجب كذلك إعادة بناء الجيش السوري على أسس مهنية ووطنية راسخة، وتطوير بنية دفاعية متكاملة في الجنوب قادرة على ردع أي محاولات اختراق جديدة.

بالتوازي مع ذلك، من الضروري تفعيل العمل العربي والإقليمي المشترك ودعم المبادرات الإقليمية التي تهدف إلى منع تحويل سوريا إلى ساحة صراع دائم بالوكالة. فدولة سورية جديدة، مستقرة ومزدهرة ومتصالحة مع نفسها، هي الحصن الأهم لمواجهة الأطماع الخارجية المتزايدة وصون سيادة البلاد ووحدتها.

وفي الختام، فإن ما تقوم به إسرائيل في سوريا لا يمكن قراءته فقط من زاوية أمنها القومي الضيق، بل يجب فهمه في سياق أوسع يتعلق بإعادة توزيع النفوذ في المنطقة، ومحاولة كل طرف أساسي تثبيت موقعه في الخريطة الجديدة المتغيرة.

وإسرائيل، على الرغم من أنها لا تمتلك اليد العليا في الملف السوري المعقد، إلا أنها تعمل بهدوء وفعالية على أن تكون رقمًا صعبًا لا يمكن تجاهله مطلقًا، مستخدمة في ذلك ما تملكه من أوراق طائفية واستراتيجية رابحة، لفرض شروطها على الطاولة الإقليمية المقبلة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة